رسالة الشافعى.. إرث «الإمام» أسيراً «الحلقة الثانية»

كتب – محمد الدعدع

جريدة الوطن – الإثنين 11 يونيو 2018م

ملف الشافعي 3
صورة من التحقيق الصحفي بجريدة “الوطن”

«الوطن» تروى جانباً من مآسى المخطوطات العربية فى 1000 عام وتخوض رحلة للبحث عن إحدى الرسائل المفقودة منذ 16 عاماً

ألف عام مضت، نالت من المخطوط نيلاً لا لين فيه، بطشت به وعصفت، أحرقته وأغرقته، نثرته وبعثرته، شرقته وغربته، هجرته وشردته، سقط يوم سقوط بغداد، القدس، حلب والأندلس، وضاع وانتُهب، فى مُدن كانت حُبلى بالحضارة مُفعمة بالتاريخ، نُكب العرب فى تراثهم لانفراط عقده وتناثر شذراته ودرره ولآلئه، بعدما حُمل إلى عواصم لا تتكلم لغته، فصارت مركزاً له، فلا يكاد ينفذن إلى الشرق أحدُ إلا وكانت فى الغرب قبلته.

من بين مئات الآلاف من المخطوطات العربية التى تفرقت بين المصيرين، مخطوطتان للإمام الشافعى، ثالث أئمة الفقه الأربعة، عُرفتا باسم «الرسالة»، صنف أولاهما شاب فى مكة، أصل الإسلام ومهبط الوحى، وبعث بها إلى حاضرة «العباسيين» بغداد، وأعاد تصنيف الثانية بعد أن وفد مصراً سنة 199 هجرية، طالت الأولى نيران مكتبة بغداد الأشهر «دار الحكمة» ليلة سقوط عاصمة الخلافة فى قبضة التتر، فيما ظلت الثانية فى مصر، يتناقلها الناس بالميراث وغيره، إلى أن سُرقت من دار الكتب المصرية التى أُودعت فيها، ليتفرق بذلك إرث «الإمام» بين الإحراق والاستلاب.

«الوطن» وبعد مرور أكثر من 16 سنة على اختفاء مخطوط مؤسس علم أصول الفقه، نبشت القديم المُهمل المنسى من فاجعات تراثنا المسلوب، ونفضت التراب عن مآسى مخطوطنا المنهوب، فاقتفت أثر الضائع المفقود، وأعادت جمع الهين المتناثر من الشهادات والروايات، فى مسعى لمعرفة كيف اختفت وإلام صارت واستقرت وانتهت، فتشنا فى المصادر التاريخية عن المخطوطة، نقبنا فى المكتبات والصالات ودور المزادات، سألنا تجاراً وربما لصوصاً، وثقنا لشهادات أكدت اختفاء المئات من مثيلاتها من دار الكتب المصرية خلال أربعة عقود مضت، وقفنا على الكارثة أدركنا عِظمها، فى تحقيق استغرق نحو ستة أشهر، وقد سلكنا فى ذلك مسالك كثيرة، كاشفين الكثير ممن أراد له البعض أن يظل مستتراً، نفصح عن تفاصيله فى السطور التالية.

موظف بـ«دار الكتب» حاول قطع طريق الوصول مبكراً لـ«بكرى سلطان» وأنكر معرفته به قبل أن يبادر بالسؤال: «هو حضرتك عايزه فى إيه؟.. لازم أرجع للريّس الأول»

الوصول إلى بكرى سلطان، رئيس قسم الترميم اليدوى بدار الكتب، بدا منذ الوهلة الأولى مهمة غير سهلة، خاصةً مع محاولات أحدهم قطع طريق الوصول مبكراً إلى ذلك الذى عُرف «ثورجياً» بين زملائه فى «الدار»، لا لدعوته المتكررة لجرد المخطوطات وقوفاً على أعدادها، وكشفاً للمفقود منها، فحسب، إنما لترؤسه ما سُمى بـ«رابطة ثوار دار الكتب والوثائق»، وهى الرابطة التى تكونت من بعض العاملين بـ«الدار»، وأصدرت فيما بعد مجلة حملت اسم «فجر الحرية» اختصت بتغطية شئون «الدار» والمطالبة بحقوق العاملين فيها.

دار الكتب

الحديث إلى ذلك المسئول فى «دار الكتب» لم تلفه المودة وأحاطه الشك من كل جانب، فما إن هاتفنا الرجل وسألناه عن «بكرى» حتى تبدلت نبرة صوته: «معندناش حد فى الدار كلها اسمه بكرى»، بدا الرجل واثقاً كما لو كان عارفاً بموظفى «الدار كلها»، غير أن مبادرته السريعة بالسؤال: «هو حضرتك عايز بكرى فى إيه؟»، أثارت فى النفس ريبة، دعتنا إلى بعض التروى للحيلولة دون إفساد الأمر كله: «أنا بس بعمل تحقيق عن تاريخ دار الكتب المصرية وبتكلم مع قُدامى موظفى الدار للحديث عنه»، ليُنهى المكالمة متعجلاً: «خلينى أرجع لرئيس دار الكتب والوثائق أولاً، وبعدها نختار لحضرتك الأشخاص المناسبين للحديث فى هذا الموضوع، مش أى حد».

كما توقعنا، أخلف الرجل وعده، فلم يرد مجدداً على اتصالاتنا، ما دعانا إلى مواصلة البحث مجدداً عن رقم هاتف «بكرى»، فتشنا على الرقم مع أكاديميين وصحفيين وذوى الصلة، إلا أن انقطاع موظفى دار الكتب عن الحديث للإعلام قبل سنوات، جعل الوصول إلى رقم الرجل مهمة صعبةً، إلا أن أحدهم بادرنا بالاتصال: «أنا جبت لك الرقم اللى كنت سألتنى عليه.. رقم تليفون الراجل ده اللى اسمه بكرى سلطان بتاع دار الكتب».

على عجلٍ من الأمر، قطعنا المسافة الواقعة بين مقر عملنا فى حى الدقى بالجيزة إلى حى رملة بولاق بالقاهرة، حيث ينتظرنا من داومت أبحث عن رقم هاتفه أسبوعين، الذروة من النهار حلت، وقلب القاهرة المار بميدانى التحرير وعبدالمنعم رياض يملؤه الزحام فى هذه الساعة من اليوم، لتزامنها وخروج الموظفين وطلاب الجامعات والمدارس إلى منازلهم.. أُعجل المسير وأُسرع الخطى، القلب يخفق اضطراباً وتتسارع ضرباته بتسارع أنفاس الصدر الذى يتسع فى محاولةٍ لاستيعاب الجهد المبذول.. 500 متر تفصلنا عن مبنى دار الكتب المصرية، حيث يعمل بكرى سلطان، صاحب الـ59 عاماً، رئيساً لقسم الترميم اليدوى بدار الكتب.

9 أشهر تبقت لـ«بكرى» قبل خروجه إلى المعاش شجعته بما يكفى على البوح: «أجروا جرداً بعد اختفاء (الرسالة) وكانت الفاجعة فى اكتشاف فقدان 300 مخطوطة»

9 أشهر بقين لـ«بكرى» قبل خروجه إلى المعاش، قد شجعته كفاية على البوح، فلم يعد فى عمره الوظيفى أكثر مما مضى، لشىء فى نفسه آثر «بكرى» أن يكون اللقاء بعيداً عن «دار الكتب»، تلك التى يُسورها الحديد والتقاليد من كل جانب، التقيته على بُعد أمتار وتصافحنا، ثم سار بنا عبر عطوف «رملة بولاق» وأزقتها وحواريها وصولاً إلى مقهى شعبى فى الجوار.

بصوته العذب الذى يملأ المكان، يصدح القارئ الشيخ الراحل محمود على البنا مُرتلاً آيات بينات من سورة «التوبة» عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، وإلى جوار الراديو القديم المعلق على يمين مدخل المقهى، أفصح «بكرى» هناك عن مكنون صدره وعميق تأثره، أنصتنا له باهتمام كشفته بما يكفى ملامحنا الساكنة: «فى قسم الترميم، تمر علينا كافة المخطوطات بأنواعها، للقيام بعملية الترميم ضماناً لحفظ المخطوطات لمدة تتراوح بين 300 و500 سنة مبدئياً، وهى مهمة الهدف منها تسليم المخطوطات إلى الأجيال المقبلة لتولى مهمة الحفاظ عليها بدورها.. لدينا فى الدار قسم المخطوطات والبرديات والمسكوكات وبه ذخيرة مصر وكنزها وقوتها الناعمة، فمصر عالمياً هى الدولة الثانية بعد تركيا من حيث أهمية المخطوطات المحفوظة لدينا، خاصةً المصاحف المملوكية التى تنفرد مصر بامتلاكها، والمخطوطات تبنئ عن الحضارة التى صنعها العرب، والمستوى الأدبى والفكرى والإنسانى للأجيال السابقة».

يمضى الرجل الذى دَرَس الخطوط العربية، واحترف رسم «البورتريهات» رغم تخرجه فى كلية الزراعة لإيمانه بالفكر «العقَّادى»، نسبة إلى عباس العقاد، الأديب المخضرم صاحب «الابتدائية القديمة»، مُفرغاً خواطره دون مقاطعة لحبل أفكاره: «مصر بها 58701 عنوان لمخطوطة كاملة خلافاً للمخطوطات المُهداة، والمخطوط الواحد قد يتكون من أجزاء، وأقصد بعنوان لمخطوطة كاملة أننا نمتلك ما يزيد على هذا الرقم من المخطوطات المُجزأة.. فى القرن الرابع عشر الميلادى، دخلت المخطوطات مصر بكميات هائلة، لسقوط الخلافة العباسية، فكان فى مصر المأمن لهذه المخطوطات، قبل أن تخرج هذه المخطوطات على يد التجار والقناصل إلى دول أوروبا فى القرن الخامس عشر، استقرت هناك فى إسطنبول وبرلين وباريس ولندن وغيرها من العواصم، فالغرب يُقدّر المخطوط، وتجدها على مستوى العالم فى بيت الأمراء والملوك والحكام.

المفقود عظيم، والمُفهرس وحده يمثل نحو 20% فقط من المخطوطات المنتشرة حول العالم، حسبما يقول «بكرى»، الذى تملأ حلقه مرارة الحسرة على تراث العرب من المخطوطات التى فُقدت عبر القرون المختلفة: «لولا النسخة الوحيدة لمخطوط (الجبر والمقابلة) للخوارزمى، الموجودة بمكتبة (بودلى) فى أكسفورد فى بريطانيا، لما عرفنا أن الخوارزمى هو مؤسس علم الجبر، لم نخلع نحن عليه ذلك، إنما هم من أخبرونا أن ذلك العالم العربى المسلم هو مؤسس علم الجبر، خاصةً أنه هو من وضع للصفر قيمة، بعدما كان بلا قيمة فى الحساب الهندى، لدينا أيضاً مخطوط (الحاوى فى الطب) للإمام أبى بكر الرازى، الذى أسس لعلوم الطب فى أوروبا لأربعة قرون من الزمان، وكان أول من اخترع خيوط الجراحة، وكذلك أول من اخترع مراهم الزئبق، حتى إن ملك فرنسا أمر بترجمة مؤلفه إلى الفرنسية، وكان المقابل وزن الكتاب ذهباً، وقد تُرجم فى 20 مجلداً».

رئيس «قسم الترميم»: 4 جرود سابقة فقط.. والخوف من المخطوطات المفقودة ظل هاجساً لرؤساء دار الكتب 

 

مرارة فقدان ذلك الإرث العربى النفيس، كانت لـ«بكرى» دافعاً لدعواه بتشكيل لجان شعبية لحماية المخطوطات بدار الكتب من السرقة أثناء الثورة، بُحّ صوت الرجل فى مطالبة رؤساء دار الكتب السابقين ومن بعدهم وزراء الثقافة المتعاقبين بضرورة جرد محتويات «الدار» من المخطوطات والكتب النادرة، خاصةً بعد حادثة سرقة مخطوطة «الشافعى»، ودفع أثماناً مغلظة فى سبيل ذلك على المستوى الوظيفى: «فى تاريخ دار الكتب كان هناك 4 جرود سابقة فقط، أعوام 1976م و1985م، و1998م، و2002م، ومنذ تاريخ الجرد الأخير كان يجرى من وقت لآخر بعض الإحصاءات على الكشوف الحديثة، والتى لا ترقى إلى مستوى الجرد».

يسترجع «بكرى» من الذاكرة ما ألمّ بمخطوطة الإمام الشافعى المعروفة بـ«الرسالة» وأحاط بها: «عام 2002م، كان الدكتور صلاح فضل هو القائم على دار الكتب، أثناء حدوث واقعة اختفاء مخطوطة الرسالة للإمام الشافعى، وقد حُفظت لنحو 1200 سنة فى مصر قبل أن تُسرق منذ 16 سنة تقريباً خلال احتفالية حضرها وفد سورى، فى يوم الوثيقة العربية، وقد حُقق فى الأمر كثيراً، وتم استجواب المسئولين فى مجلس الشعب آنذاك، وصرح الدكتور صلاح فضل، رئيس دار الكتب حينها، بأنه سيتم فرض حراسة حديثة مشددة حول دار الكتب، كما سيتم عمل تشفير للمخطوطات والكتب النادرة من محتويات الدار، متعهداً بعدم ضياع أى مخطوطات أخرى. لكن ما جدوى البكاء على اللبن المسكوب؟ سُرقت مخطوطة الشافعى، ولم يتبق منها سوى نسخة ضوئية رديئة لدى الدار، وربما بعض الصُور التى التقطتها على الأرجح بعض الجهات ممن يجمعها بالدار بروتوكول يتيح لها تصوير المخطوطات».. هنا أدركنا أن لـ«الرسالة» على الأرجح صوراً أخرى غير تلك التى تمتلكها دار الكتب.

يتابع الرجل: «أجروا جرداً للاطمئنان، وكانت الفاجعة، حيث اكتشفوا غياب 300 مخطوط منها 109 مصاحف بخط اليد، وكان الدكتور أحمد عبدالباسط، الباحث فى مركز تحقيق التراث، والمشرف على قسم المخطوطات والبرديات والمسكوكات فى دار الكتب آنذاك، أحد أعضاء لجنة الجرد، وقد أخبرنى بنفسه أنهم حينما اكتشفوا غياب هذا العدد الكبير من المخطوطات أخفوا الأمر وخرجوا بتقرير مفاده أن المفقود هو مخطوطة الرسالة فقط، وقد احتفظوا بالتقرير الختامى الحقيقى سراً».

مضى «بكرى» مستكملاً ما بدأ، فلا يزال فى مكنون صدر الرجل الكثير ليرويه: «توافد على رئاسة دار الكتب بعد سرقة مخطوطة الإمام الشافعى كثيرون، وخلال سنواتهم فى دار الكتب لم يجروا جرداً حقيقياً لمحتويات الدار من المخطوطات، فثمة فارق بين الجرد والإحصاء، فالجرد يكون بمطابقة الموجود حالياً بسجلات مُعدة حينما نُقلت مخطوطات دار الكتب من «باب الخلق» إلى المقر الحالى فى «رملة بولاق» عام 1977م، وهذه السجلات بها الكثير من الخلط، كما ينبغى تنقيحها قبل أن يُجرى الجرد على أساسها، لرصد الغائب، الذى ربما قد يظهر فى مكتبات أو مزادات عالمية، يمكن خلالها المطالبة باسترجاعه مرة أخرى».

الخوف من تبعات ظهور مزيد من المخطوطات المفقودة، ظل هاجساً لدى كثير من رؤساء دار الكتب، حسبما يرى «بكرى»: «خافوا من المسئولية، خافوا أن يتحملوا مسئولية أن يكشف الجرد عن غياب العديد من المخطوطات فيحاسبوا، كان ينبغى أن نُجرى هذا الجرد، وأن نُعلنه على الرأى العام، كان على الفوضى أن تنتهى».

جرد المخطوطات ظل بُغية «بكرى» لسنوات، فى سبيله تخطى قواعد دولاب العمل الحكومى، قافزاً على حواجز الروتين المعمول به فى الجهاز الإدارى، متجاوزاً رؤساءه المباشرين، ناقلاً بغيته إلى عدد من وزراء الثقافة السابقين مباشرةً: «قابلت حلمى النمنم ومحمد صابر عرب، وعبدالواحد النبوى، طالبت بالجرد لسنوات، طالبت أن يتم هذا الجرد بشكل دورى من باب الطُمأنينة وتتمة للإجادة والفائدة، لكن دون استجابة.. السنة الماضية اكتشفنا وجود 56 مخطوطة من المخطوطات فى الطابق الثامن من المبنى، وسط أكوام المطبوعات، وهو ما يبشر برأيى باكتشاف العديد من المخطوطات المفقودة».

للجرد الذى يأمل «بكرى» إجراءه مواصفات وقواعد: «لا يستقيم فيه أن يقوم به الموظفون جرداً على أنفسهم، إنما يجب أن يقوم به مختصون من خارج دار الكتب، بمعاونة بعض الموظفين بالدار، وبإشراف إحدى الجهات القضائية، ينبغى أن نخرج من الفوضى إلى أرض الواقع، بأن يُجرى الجرد، وثمة ما يُبشر فى أمر الحفاظ على التراث، فقد صدر فى 15 ديسمبر 2014 مرسوم جمهورى يقضى بالتشديد على من يثبت أن له صلةً بنية التهريب أو الإهمال فى المخطوطات، وتوسعوا فى هذا المرسوم فى تعريف المخطوطات لتشمل المطبوعة القديمة التى لها قيمة، وهو برأيى غاية ما تستطيع أن تقوم به الدولة فى شأن حماية التراث ومخطوطاته، ليبقى تفعيل ذلك على جموع المثقفين ووزارة الثقافة».

لم يكد يفرغ «بكرى» خزانة أفكاره عن القضية، إلا وكنا قد انتهينا لتونا من ارتشاف كوب الشاى الرابع، وقد أذنت الشمس بالرحيل، حينها انتهى حديث «بكرى» عن «الرسالة»، ليختتم حديثه ويريح صدره بكلمات أخيرة: «دار الكتب كيانى، اسمى مشتق منها، لا مطالب خاصة لى، إنما هى أمنيات بالخير والسلامة لهذه الدار، وأتمنى أن تُنشأ كلية لتدريس المخطوط العربى وعلومه وتحقيقه».

«عبدالباسط»: كنت عضو لجنة جرد 2002 وأعددنا تقريراً سرياً سجّلنا فيه فقدان الكثير من المخطوطات

وثّق «بكرى»، فى شهادته، اختفاء مئات المخطوطات من دار الكتب المصرية، وهى الشهادة التى تحققنا منها ووقفنا عليها يقيناً خلال اللقاء الذى جمعنا بالباحث فى مركز تحقيق التراث، والمشرف السابق على قسم المخطوطات والبرديات والمسكوكات فى دار الكتب، الدكتور أحمد عبدالباسط.

المخطوط يمثل كل ما هو أصيل وتراثى، والأمم بماضيها قبل أن تكون بحاضرها، فى مثل هذا يعتقد «عبدالباسط» الذى التقيناه فى مكتبه الخاص غير ذى السعة، وقد أحاطته عشرات المُجلدات التراثية المُحققة: «المخطوط مهدد، وقد اعترضته الكثير من التحديات عبر القرون المختلفة، منها تغير مناخ البيئة والصراعات والحروب والتغريب والتهجير والسرقات بغرض التجارة، تدمير التراث يبدأ بتدمير المخطوط، مئات الآلاف سُرقت، وبعضها تم شراؤه استغلالاً لحاجة بعض المجتمعات كالمجتمع اليمنى وغيره على سبيل المثال».

يروى «عبدالباسط»، الذى يشرف حالياً على مشروع فهرسة مجاميع المخطوطات بدار الكتب المصرية، على الرغم من رحيله عن «الدار» قبل سنوات، أن هناك الكثير من المخطوطات التى نُهبت من دار الكتب، كما تبين فى جرود أعوام 1976م و1985م و1998م و2002م، عشرات بل مئات المخطوطات المفقودة كانت النتيجة التى يصل إليها كل جرد، وذلك لعدم كفاية الرقابة.

يُفتش الرجل فى ذاكرته، مسترجعاً حادثة اختفاء مخطوطة «الرسالة» للإمام الشافعى: «هذه المخطوطة من أقدم ما وصل إلينا مكتوباً على الكاغد، أى الورق، فى أواخر القرن الثانى الهجرى، وقد كنت شاهد عيان على الجرد الأخير الذى أجرته الدار عام 2002م، وشاركت فى لجنة إعداد التقرير السرى الذى جرى عرضه على مجلس الشعب بعد استجواب رئيس دار الكتب إثر فقدان المخطوطة، واكتشفنا فقدان الكثير.. ربما العشرات».

يمضى «عبدالباسط» فى حديثه، مبرهناً على ما قدم من إفادة حول اختفاء كثير من المخطوطات بدار الكتب: «قبل أيام فقط، ساهمت فى إيقاف بيع مخطوطة (المختصر فى التاريخ) لمحيى الدين الكافيجى المتوفى سنة 879 هـ، والتى كانت محفوظة فى دار الكتب المصرية تحت رقم 528 قبل ملاحظة اختفائها فى جرد 1976م، وظلت مختفية طيلة 42 عاماً قبل ظهورها منذ نحو أسبوع فى أحد مزادات العاصمة البريطانية لندن، وتجرى محاولات حالياً لاسترداد المخطوطة مرة أخرى».

بالنسبة لـ«عبدالباسط» فإن خبر «الرسالة» توقف عند اختفائها، فلم يعد يعلم عنها شيئاً، إلا أن الحل من وجهة نظره لوقف سرقات المخطوطات يكمن فى: «أن تكون هناك لجنة مشتركة مكونة من وزارتى الآثار والثقافة، تتولى مهام حصر هذه المفقودات بعد التعريف بها، ومخاطبة أصحاب المزادات وصالات عرض التحف والمكتبات العالمية بهذه المفقودات لوقف بيعها حال ظهورها».

لا يقف الحل عند عتبة ما سلف، فيزيد الرجل مضيفاً: «المفترض أن يتم اتباع نظام تكنولوجى عند إجراء الجرد، وهو النظام المعمول به فى كثير من مكتبات العالم، ويمكن من خلاله جرد كل مخطوطات المكتبة خلال يومين على الأكثر عبر خاصية الكشف عن (الليبول) أو (الباركود) الإلكترونى الخاص بكل مخطوط، عبر جهاز إلكترونى يُجرى عملية الحصر بشكل دقيق وسريع، خلافاً لأساليب الجرد التقليدية الأكثر عُرضة للأخطاء البشرية. الحل أيضاً يكون عبر محاولة سبر أغوار العقليات الناهبة لهذا التراث، إذ يدرك السارق أن أصول المخطوطات نفيسة بندرتها وقدمها، وأنها غير متاحة للباحثين، وعليه ينبغى إتاحة حصول الباحثين على صور عالية الجودة لهذه المخطوطات حال طلبها، من خلال عمل رقمنة عالية الجودة، وهو الأمر الذى لا يمنع أيضاً من اتباع الوسائل الحديثة لحماية هذه المخطوطات، كتركيب البوابات والأجهزة الكاشفة، وتوعية القائمين على هذه المخطوطات باعتبارها تراث العرب وهويتهم ولا ينبغى التفريط فيه».

عند مراجعة كلام الرجل للوهلة الأولى، تتكشف لنا أمور ثلاثة؛ أولها توثيق اختفاء عشرات المخطوطات من دار الكتب فى جردها الأخير، ثم حالة مماثلة لمخطوطة سُرقت من دار الكتب قبل 42 عاماً وعُرضت للبيع فى أحد المزادات فى لندن، وأخيراً حل تكنولوجى لوقف نزيف سرقات المخطوطات العربية من دور حفظها.

ثمة قواسم مشتركة بين «الرسالة» و«المختصر فى التاريخ»، فالمخطوطتان من نفائس المخطوطات العربية، وكلتاهما سُرقت من دار الكتب المصرية وإن اختلف زمان سرقتهما، لكن هل يجمعهما أيضاً المستقر ذاته.. لندن؟!، ذلك أن العاصمة البريطانية تشتهر باعتبارها عاصمةً لصالات المزادات العالمية ودور عرض المقتنيات الأثرية، وليست دور «كريستيز» و«بونهامز» و«سوثبى» و«فلبس» و«سبنك» و«مورتون آند إيدن» و«بلدوين أوف سانت جيمس» وغيرها سوى أسواق لبيع التاريخ العربى والإسلامى بصنوفه، بحماية من القانون الإنجليزى، حسبما أقرت بذلك السفارة المصرية فى لندن، فى بيانها الصادر بتاريخ 13 سبتمبر 2014م حول رفض إحدى دور المزادات البريطانية الشهيرة وقف بيع غطاء تابوت فرعونى لأحد ملوك الأسرة 25، معللةً بأن القانون الإنجليزى يتيح ذلك، ولا يعبأ بمخالفة قانون حماية الآثار المصرية الصادر عام 1983م.

محرر «الوطن» توصل إلى وجود مخطوطات لـ«ابن سينا» و«السيوطى» و«النواوى» معروضة للبيع فى دور مزادات عالمية

دار مزادات «كريستيز»، الكائنة بشارع كينج ستريت فى لندن، عرضت، خلال العام الماضى، تماثيل للمعبودات المصرية القديمة، ومن بينها «إيزيس وأوزوريس وهوروس»، بالإضافة إلى مجموعة تماثيل لقطط وثيران وأدوات حربية مصرية قديمة، كذلك عرضت دار مزادات «سوثبى» تماثيل وخشباً منحوتاً وألواح عاج مطعمة تعود للقرن الرابع عشر، وكذلك دار «بونهامز» التى لم تستجب لطلب رسمى مصرى بوقف بيع جزء من تاج الملك مرنبتاح، ‏ ابن رمسيس الثانى‏، ‏ وتمثال للمعبودة نيث،‏ حامية الدلتا لدى المصريين القدماء‏، ‏ وتمثال لإله الحكمة عند الفراعنة، وأيضاً متحف تورثامبتون البريطانى، الذى باع تمثال «سخم كا» ويرجع تاريخه إلى 4500 عام إلى مشترٍ مجهول فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 2014م بقيمة 16 مليون جنيه إسترلينى، رغم مطالبة مصر باسترداد التمثال الفرعونى، ما دعا وزارة الآثار للاعتراف فى تقريرها الرسمى بشأن محاولاتها استرجاع «سخم كا» بمواجهتها مشكلات فى استرداد بعض القطع الأثرية من الخارج بسبب عدم القدرة على إثبات ملكية بعض القطع التى خرجت من مصر بطرق غير شرعية، أو خرجت قبل صدور اتفاقية اليونيسكو لعام 1970 والخاصة بحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية، وقانون حماية الآثار المصرية 1983.

المحقق بيتر واتسون كشف عن تورط موظفى «سوثبى» فى أعمال تهريب وبيع التحف واللوحات بطرق غير شرعية

المحقق الصحفى بيتر واتسون، كشف فى كتابه «دار مزادات سوثبى.. القصة من الداخل» عن تورط موظفى دار المزادات الشهيرة فى أعمال تهريب التحف واللوحات بطرق غير شرعية، وهو الأمر الذى وثّقه أيضاً برنامج تليفزيونى شهير فى بريطانيا، قال إن موظفى «سوثبى» يجولون فى الهند وجوارها للبحث عن الآثار النفيسة.

للوهلة الأولى، كنا كمن يجول بين أرفف مكتبة عتيقة أو يطوف أرجاء متحف أثرى، ننظر إلى اللآلئ وقد انسلت من وراء ظهورنا مئات المخطوطات العربية والفارسية المعروضة للبيع قد زيّنت واجهات المواقع الإلكترونية لدور المزادات وصالات عرض التحف الشهيرة فى العاصمة البريطانية لندن، هى هناك شاهدة على المكر والغفلة، تُنذر بحقبة جديدة، لا مكان فيها للغزاة التقليديين ومثالبهم إنما هى حقبة غزاة التاريخ لصوص الماضى، هناك وجدنا التاريخ للبيع، فهذه مخطوطات فى الطب لـ«ابن سينا»، وتلك لـ«التبريزى» و«القزوينى» و«السيوطى» و«النواوى» و«ابن الشاطر» و«الطوسى» و«الذهبى»، وأكثرها تعود ملكيته وموضع كتابته وحفظه لمصر وسوريا، كما هو مذكور فى الشروحات المرفقة الموثقة للمخطوطات المعروضات للبيع، صور أخرى لمخطوطات وُصفت بـ«النفيسة بالغة القِدم»، حُجبت تفاصيلها بدعوى حماية حقوق الملكية.

دار مزادات سوثبي خلال إحدي المزايدات فيما تشير موظفة الدار

تتيح المزادات العالمية إمكانية ترسية المزاد والشراء للمشترين المجهولين عبر الهاتف، فللحاضرين وللغائبين عن صالة المزاد، المزايدة على شراء إحدى التحف الأثرية أو المخطوطات دون أية عراقيل، وتتفهم دور المزادات رغبة كثيرين فى أن يبقوا كمشترين مجهولين، ربما تجنباً لأى ملاحقة بعد ذلك، ولا يهمها فى الأمر سوى الذى يدفع أكثر.

رئيس «دار الكتب» السابق: عُمر «الدار» يتجاوز الـ100 سنة والسرقة واردة ونتعاون مع «الآثار» فى استرداد المسروقات لكن الأمر يتطلب مستندات لإثبات الملكية

 

لم ينف الدكتور أحمد الشوكى، رئيس دار الكتب والوثائق القومية السابق، وجود مسروقات من مخطوطات «الدار»: «عُمر الدار يتجاوز المائة سنة، والسرقة واردة، وارد أن تكون بعض المخطوطات قد سُرقت على مدار هذه السنوات الطوال، كمخطوطة الرسالة للإمام الشافعى، لكننا نتعاون فى هذا الصدد مع إدارة الآثار المستردَّة بوزارة الآثار، لوقف بيع أى مخطوط قد يظهر فى المزادات العالمية، والعمل على استرداده، وذلك من خلال تقديم المستندات الدالة على ملكية الدار لهذا المخطوط، وهو أمر قد يستغرق بعض الوقت». «الشوكى» أشار إلى أن قراراً قد اتُخذ فى عهده لإجراء الجرد بشكل دورى كل أربع سنوات: «آلية محددة وواضحة ستحكم الجرد وقوفاً على محتويات دار الكتب من المخطوطات والكتب النادرة النفيسة، نأمل أن يتم ذلك قريباً».

واصلنا بحثنا ورحنا نفتش عن المختصين والأكاديميين ذوى الصلة بالمخطوطات وتحقيقها، الخابرين بفنونها، العالمين بعلومها، حتى بلغنا القتامة فى آخر النفق المظلم، فكنا على موعد مع المفاجأة.. لساعات معدودات، ظهرت «الرسالة» حيث توقعنا فى عاصمة المزادات لندن، قبل أن تساق إلى مشترٍ مجهول، بحسب شهادة الدكتور فيصل الحفيان، عضو هيئة المخطوطات الإسلامية بجامعة كامبريدج البريطانية، وهى هيئة علمية تضم ممثلين عن العديد من المكتبات والمتاحف المالكة لمجاميع المخطوطات الإسلامية، بالإضافة إلى الأفراد ذوى الاهتمامات الأكاديمية والمهنية بالمخطوطات الإسلامية من مختلف الدول.

«الحفيان»، الذى يُشار إليه باعتباره أحد شيوخ المهنة، لتاريخه الطويل فى مهام تحقيق التراث، وجمعه بين مناصب عدة فى الاختصاص ذاته، ليس آخرها مدير معهد المخطوطات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) المنبثقة عن جامعة الدول العربية، وعضو مركز المخطوطات بجامعة الإسكندرية، وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق، والخبير بمجمع «الخالدين» بالقاهرة، أكد أن مخطوطة الإمام الشافعى ظهرت قبل سنوات لساعات فى أحد مزادات لندن، ثم بيعت لمجهول، مرجحاً أن يكون المشترى أحد المعنيين بالتراث العربى والإسلامى، أو حتى أحد الأثرياء.

يختم «الحفيان»، المسكون بحب المخطوطات، المهموم بمآلاتها: «لاقت مخطوطة الرسالة للإمام الشافعى مصير كثير غيرها من نفائس المخطوطات التى نُهبت وربما لا تزال، ثم إن الحرب على الإنسان لا تنفك أبداً عن تراثه، فالقتل كما يتوجه إلى الحياة، يتوجه أيضاً بالدرجة نفسها إلى عقله، وذاكرته الحضارية وتراثه وهويته».

سَأَضرِبُ فى طولِ البِلادِ وَعَرضِها

أَنالُ مُرادى أَو أَموتُ غَريبا

فَإِن تَلِفَت نَفسى فَلِلَّهِ دَرُّها

وَإِن سَلِمَت كانَ الرُجوعُ قَريبا

ظل الرأس يموج ببحور من التساؤلات لا تنكسر على صخرة الأجوبة بعد: «كيف خرجت إذاً مخطوطة الإمام الشافعى خارج مصر؟، فالطريق من رملة بولاق، الحى التاريخى بقلب القاهرة النابض، وصولاً إلى العاصمة البريطانية لندن، وعر وشاق وبالغ الطول على الأرجح أمام مخطوطة ثارت حول اختفائها ضجة كبيرة، ثم من ذاك الذى نفّذ وسهّل وهرّب وسَوّقَ وثمَّن وباع واشترى؟».

الدكتور بسام الشماع، عالم المصريات وخبير الآثار، قدم تفسيراً منطقياً لخروج «الرسالة» من مصر: «حقائب الدبلوماسيين واحدة من أبرز وسائل تهريب الآثار السهلة والآمنة إلى الخارج، خاصةً إذا كانت هذه المُهربات صغيرة الحجم، ذلك أن حقائب الدبلوماسيين لا تُفتش، أو هكذا كانت على الأقل فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك على وجه الخصوص».

حقائب الدبلوماسيين، كما قال «الشماع» تبقى فى نهاية المطاف واحدة من أبرز وسائل تهريب الآثار، ربما هى أسهلها وأكثرها أماناً للمهربين أنفسهم، لكن وقائع الأمور والأحداث تشير إلى أن لصوص التاريخ شقوا طريقاً إلى الخارج عبر المطارات والمنافذ الحدودية، فمصلحة الجمارك أحبطت، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، تهريب الكثير من المخطوطات والكتب النادرة إلى الخارج عبر منافذها المنتشرة على مستوى الجمهورية، ما يشير إلى كثرة محاولات التهريب وإلى نجاح بعضها فى العبور إلى الخارج.

يضيف «الشماع»، عضو الجمعية التاريخية، والمُحاضر بالمتحف البريطانى فى «لندن» ومتاحف «المتروبوليتان» و«ليك كاونتى» و«فيلدذ» ومعهد الأبحاث الشرقية بالولايات المتحدة الأمريكية، أن السلطات الإيطالية ضبطت قبل أيام طرداً دبلوماسياً بميناء ساليرنو الإيطالى قادماً من ميناء الإسكندرية، ويضم عشرات القطع الأثرية المصرية، وتابوتاً حجرياً وقناعاً ذهبياً، وقارباً بـ14 مجدافاً، ما يبرهن كفاية على فرضية تهريب الآثار عبر الحقائب الدبلوماسية.

يمضى «الشماع» قائلاً: «لك أن تتخيل أن اللصوص قاموا بشحن تابوت فرعونى جواً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد تقطيعه إلى أربعة أجزاء، ليقوم مُرمم آثار محترف بجمع الأجزاء الأربعة مرة أخرى، قبل أن تعثر عليه السلطات الأمريكية مخبأ فى منزل تاجر آثار فى حى بروكلين بنيويورك قبل فترة.. حتى الخيالات الخصبة لا يسعها تصديق ما حدث».

تنتقل المسروقات الأثرية عادة من شخص إلى آخر، وتظل على ذلك وصولاً إلى عرضها فى دور المزادات العالمية بسعر تقديرى بخس، لرغبة السارق فى التخلص منها ولو بثمن بخس، يقول «الشماع» مضيفاً: «غير أن المزايدات ترفع سعر تلك المسروقات بعد ذلك كما حدث مع تمثال (سِخم كا)، الفرعونى الذى عرضته دار مزادات (كريستيز)، فى البداية بـ4 ملايين جنيه إسترلينى وظل يرتفع ثمنه وصولاً إلى بيعه بـ16 مليون دولار، وهى الطريقة ذاتها المتبعة فى مزادات بيع الآثار.

التحف الإسلامية أكثر الآثار التى خرجت من مصر لسهولة تهريبها، كما يقول «الشماع»: «تتميز بصغر حجمها كالعملات الذهبية، ويوجد فى أمريكا محل يحمل اسم (LITTLE TON) متخصص فى بيع العملات المعدنية بداية من عصر الدولة الأيوبية».

طاف «الشماع» بالعديد من متاحف ودور المزادات العالمية، طالعت فيها عيناه عدداً كبيراً من الآثار المصرية، كانت له دافعاً بما يكفى لإطلاق حملة لاسترداد الآثار المصرية المسروقة بالخارج بالتعاون مع وزارة الآثار قبل سنوات، غير أن الحملة لم تفضِ إلى شىء: «زرت مدينة القدس الشريف، وشاهدت هناك فى متحف الفن الإسلامى بالقدس، مخطوطة للعالم المسلم بديع الزمان أبوالعز الجِزرى، مخترع الساعة المائية الأوتوماتيكية، رأيت أيضاً إسورة ذهبية فرعونية على شكل ثعبان بيعت فى مزاد بتل أبيب، وحينما سألت إحدى المرشدات من أين أتوا بهذه التحف العربية والإسلامية؟ قالت: (From Our American Friends)، كذلك حضرت بيع دينار عبدالملك بن مروان (77هـ) فى لندن. كنت أتعجب كثيراً لدى رؤيتى هذه الآثار المصرية فى الخارج متسائلاً عن طريقة خروجها، وأدركت فيما بعد بالبحث أن هناك بعض المناطق المخصصة كـ(ترانزيت) أو محطات دولية لتهريب الآثار دون ضبطها أو إيقاف مرافقيها».

«رسالة الشافعى» ليست الوحيدة التى ينبغى العمل على فك لُغز تهريبها للخارج، بل هناك الكثير، ليست لوحة زهرة الخشاش للرسام العالمى فان جوخ، والتى سُرقت من متحف محمود مختار قبل 8 سنوات، وتقدر قيمتها آنذاك بـ55 مليون دولار أولاه، ولا منبر السلطان قايتباى الرماح وحُليات ومشكاوات مسجد الرفاعى أُخراه، فالقائمة تطول لمئات المفقودات، بحسب «الشماع»، متابعاً: «قاموا بإفراغ برواز لوحة زهرة الخشاش باحترافية لا مثيل لها، دون ترك أثر لطرف خيط من قماش اللوحة، وقد تجاوزوا فى سبيلها الحراسات المشددة وكاميرات المراقبة التى تبين أنها مُعطلة وغيرها من الحواجز بقدرة فائقة حيرت العالم، ما يشير كفاية إلى أننا أمام مافيا عالمية، طرفاها فى الداخل والخارج، ولها منفذون ومُثمنون ومسوقون».

سبق لـ«الشماع» أن طالب بحماية المحتويات الأثرية بمسجد أحمد بن طولون، عبر الدعوة إلى الاستعانة بكاميرات للمراقبة، ذلك أن حوادث السرقة الشهيرة بحق آثارنا القديمة كانت تخلو دائماً من الكاميرات على نحو مُحَيّر: «سُرقت لوحة زهرة الخشاش، فيما كانت الكاميرات معطلة، وسُرق المتحف المصرى إبان ثورة 25 يناير 2011، وأيضاً كانت الكاميرات مُعطلة، يومها بادرت ساخراً مما ألَّم بالمتحف، بإطلاق حملة (الشعب يريد مشاهدة فيلم سرقة المتحف المصرى)، وأتساءل: هل هناك كاميرات مراقبة مؤمنة كفاية ضد الأعطال داخل مخازن الآثار المصرية؟!».

نجَت مخطوطة الإمام الشافعى من ويلات ما شهدته مصر من حروب وحملات وانتدابات، عايشت المحن والفتن، إلى أن ضيعها الإهمال وغياب الوعى، وربما انعدام الضمير.. رحلت «الرسالة» من أرض كانت تُضام بها، وسيقت إلى أرض تُجَّل فيها ويُعرف قدرها.. بغُصَّة فى الحلق تكسوها المرارة، أشعر كأننى بـ«الشافعى» أسمع قوله:

اِرحَل بِنَفسِكَ مِن أَرضٍ تُضامُ بِها

وَلا تَكُن مِن فِراقِ الأَهلِ فى حُرَقِ

فَالعَنبَرُ الخامُ رَوثٌ فى مَواطِنِهِ

وَفى التَغَرُّبِ مَحمولٌ عَلى العُنُقِ

وَالكُحلُ نَوعٌ مِنَ الأَحجارِ تَنظُره

فى أَرضِهِ وَهوَ مُرميٌّ عَلى الطُرُقِ

لَمّا تَغَرَّبَ حازَ الفَضلَ أَجمَعَهُ

فَصارَ يُحمَلُ بَينَ الجَفنِ وَالحَدَقِ.

أضف تعليق